خلقك لِيُسعِدَكَ إلى الأبد، فلا سعادة تنقطع عند الموت، وما الحياة الدنيا إلا إعداد لهذه الحياة الأبدية، فالله يقول " وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " والصراط هو طريق الهادي إلى الهادي
ما معنى الهِداية ؟
أي الإمالة، هداه أي أماله، أي وجهه نحو الحق، وتُسمى الهديةُ هديةً لأن من شأنها أن تُميل قلب المَهْدي إليه.
يقول الإمام الجنيد قال: " اهدنا الصراط المستقيم ؛ يعني يا رب مِلْ بقلوبنا إليك، وأقم هِمَمنا بين يديك، واجعل دليلنا منك عليك "، فالله هداك أي جاء بك إلى طريقه بوسائل وأسباب منها حواسك كالشم تميز به الروائح، فلا يضرك الغاز الضار، وهداك بحاسة السمع لتعرف أن هذا الصوت إنذار، وهذا صوت مطرب من فرير ماء الأنهار، أعطاك الله حاسة الإبصار لتهتدي بها في طريق سيرك، واعطاك عقلا يعرف كل ما سبق ليدلك ويهديك به إليه، أعطاك ملكة الاستدلال والتفكير لتهتدي إلى طريق ينفعك.
مثلا
هدى النملة إلى تغيير طريقها إذا وجدت حاجزا أمامها لتغير طريقها، وهدى سمك السلمون من سواحل الأطلسي إلى مصبات الأنهار في أمريكا ثم يعود السمك المولود الجديد إلى سواحل فرنسا جهة المشرق، وإذا كبر عاد إلى مكان ولادته عند سواحل أمريكا، فالله هو الذي هدى كل الخلائق إلى أسباب تحصيل منافعه.
الله سبحانه هو الهادي، يعني هدانا بخلق الكون، وهدانا بالقرآن وهدانا بأفعاله وهدانا بالفِطرة، وهدانا بالإلهام، وهدانا بالرؤيا، وهدانا عن طريق الأشخاص، وهدانا عن طريق الانشراح والانقباض والتيسير والتعسير، ثمَّ هدانا عن طريق التسيير المباشر .. أي أنه هدانا سبحانه إلى كل الوسائل الموصلة إليه، لتميل قلوبنا إليه عن طريق هذه الوسائل، والله ما هدانا إليه إلا ليعرفنا عليه، وهذه كله يعني أنَّ الله هو الهادي قال تعالى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5) (الأعلى: 1-5)
أولا الهداية عن طريق الكون:
فالله سبحانه هدى الإنسان إليه عن طريق خلق الكون، فإذا أردت أن تفكر في الكون وصلتَ إلى الله إنه صنعته، منه تصل إلى الصانع. إنه خلقه، منه تصل إلى الخالق، إنه كونه، منه تصل إلى المكوّن. إنه تنظيمه، منه تصل إلى المُنظِّم. به ترى العِلم، به ترى الحِكمة، به ترى القُدرة، به ترى اللُطف، به ترى الرحمة ،كل ما في الكون يدلُّ على الله عزَّ وجل.
وإذا نظرت إلى وردة رأيت تجلي الله سبحانه وتعالى عليها باسم الجميل، فإذا رأيت البحر هائجاً، رأيت تجلّى الله عز وجل على البحر باسم الجبّار.. تارةً ترى اسم الجبّار، تارةً ترى اسم القهّار، تارةً ترى اسم المُنتقم، تارةً ترى اسم العليم، تارةً ترى اسم الحكيم، تارةً ترى اسم العليّ الكبير ... فكُلُّ مظهر في الكون ؛ يدلُ على اسمٍ من أسمائِه؛ أو على كل أسمائه.
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (يونس: 101)
ثانيا: الهداية عن طريق القرآن:
الله سبحانه هو الهادي، فالله هداك بكلامه إليه، القرآن باب الله عزَّ وجل إليه، وكذلك الكون باب إلى الله ؛ لكن (الكون) لغة عالمية، يعني يراه ويقرؤه ويفهمه المُسلم وغير المُسلم، العربي وغير العربي، إفريقي، صيني، أمريكي، أوروبي، من أي مكان، الشمس ساطعة، النجوم زاهرة، الكواكب متألّقة، الماء عذب زلال، من جعله عذباً زلالاً بعد أن كان مِلحاً أجاجاً؟ الكون يقرؤه كل إنسان، لكن القرآن يقرأه العربي.
القرآن هو كلام الهادي إليك لتهتدي به إلى أسرار صنعته وخلقه، فما كل شيء تهتدي إليه وتصل إليه وتعرفه بالتجربة
مثلا
لو اشتريت آلة ولم تقرأ تعليمات التشغيل من صانعها، فإنك ستجرب بعض الأزرار حتى تصل إلى بعض الأسرار التي تكمن في الأزرار، فتعرف أن هذا يوصل التيار، وهذا يرفع الصوت، وهذا يحرك الآلة، لكنك قد لا تصل إلى كل أسرار الصانع في الأزرار، وبمجرد أن تقرأ الكاتلوج منشرة التعليمات ينفتح لك المغلق، فكذلك القرآن بوابة معرفة الأسرار في الأزرار
ثالثا: الهداية بأفعال الله:
تعال إلى الله تعالى، أفعال الله وحدها تُعلِّمُكَ، لكنَّ الإنسان حينما يفهم عن ربه ما يأمر وما ينهى، يدرك حكمة الله في أفعاله.
مثال:
إذا أمرضك فافهم أنه يريد أن يخبرك بمدى حبه لك وعنايته بك، بدليل أنه جعلك صحيحا إلى أن أمرضك، ويريد أن يقول لك أنا الذي أمرضك وأشفيك، يريد أن يقول لك أنا وحدي الذي أفعل بك الشيء وضده، لأهدي عقلك إليّ، لأنك لم تعرفني ولم تهتدي إليّ حال صحتك فأخذتها لأنها لم تنفعك في التعرف عليّ، وأعطيتك ما هو أنفع لك من صحتك، وهو مرضك لأنه يهديك إليّ، وأنت إن لم تعرفني لم تهتدي إليّ، فأنا أبلوكم بالشر والخير فتنة.
رابعا: الهداية بالفطرة:
لقد صممك الله تصميماً دقيقاً، مثال ذلك في بعض المحلات التجارية، تجد على البضاعة قسيمة بالسعر، ويوجد مادة على لصاقة السعر، إذا أخرجت هذه البضاعة دون أن تؤدي ثمنها وأنت خارج تحت قوس معين يصدر صوت عالٍ، كأنه يقول هذا سارق خذوه ؛ هذه البضاعة مُصممة تصميماً بحيث أنك إذا أخذتها من دون أداء ثمنها تصيحُ بك .. هذا من صنعة الإنسان، فالله سبحانه وتعالى صَمَمَ لكَ نفساً إذا أسأت تشعُر بالضيق، وتصدر بداخلك صوتا يصيح، تُسميه وخز ضمير، تُسميه كآبة، فأنتَ حينما أسأت خرجت عن قانون فِطرتِكَ، هكذا علّمَكَ بالفِطرة، علّمَكَ بخلقه وعلّمَكَ بكلامه، وعلّمَكَ بأفعاله، والآن علّمَكَ بالفطرة والدليل:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) (الشمس: 7-8)
يعني ؛ إذا فَجَرَتْ، تعرف أنها فَجَرَتْ، وإذا اتقت، ارتاحت وبعد، فإن القارئ الكريم وأنا لا أُبالغ يُحس براحة نفسية لا تُقدر بثمن لأنه مطيعٌ لله فكيف يعرف ذلك؟ يعرفه بجهاز دقيق مركب بداخله اسمه الفطرة، جهاز حساس جدا، يعطيه مؤشر السعادة بعد الطاعة، ومؤشر إحساس بالكآبة بعد المعصية.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) (الروم: 30)
إن الله ركب فيهم ميزان يزن لهم قوة وضعف علاقتهم به سبحانه.إقامة وجهك للدين حنيفاً؛ هو نفسه فِطرة الله التي فَطَرَ الناس عليها، فلا ترتاح إلاّ إذا عَرَفتَ الله، لأنَكَ إذا عرفته أويت إلى رُكنٍ وثيق.
خامسا: الهداية بالإلهام:
الله عز وجل له أساليب كثيرة في الهُدى، بل أحياناً يَهديك بالإلهام قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ... (القصص: 7)
هذا وحي إلهام، يقول لك: اللهُ ألهمني أن أسافر، الله ألهمني ألاّ أشتري هذه الصفقة، الله ألهمني ألاّ أشارك فلاناً، الله ألهمني ألاّ أشتري هذا البيت، ما عندي دليل، بل هو إلهام. أحياناً يُلهمك أن تزور مثلاً هذا المسجد، أنا أتكلّم عن سابق تجربة، إذ ليس من أخٍ اهتدى إلى الله عزّ وجل عن طريق هذه الدروس إلاّ وكنت أسأله سؤالاً صغيراً، أقول له كيف اهتديت إلى هذا الجامع؟ فأسمع قصصاً عجيبةً، مثلاً دخل شخص ليصلي المغرب مصادفة فرأى جمعاً فجلس، فكان هذا أول درس يحضره وما ترك بعده درساً، هناك إنسان اهتدى عن طريق صديق، عن طريق قريب، عن طريق صاحب عن طريق موعد أحياناً، هذا إلهام.
إلهامه لك هو وسيلة من وسائله سبحانه التي لا تنتهي، التي يعرفك بها على نفسه، يريد أن يقول لك أنا أذكّرك وأسددك، وإذا فقدت الدليل على الطريق فأنا ألهمك، فأنا خالق الطريق وخالق علامات الطريق إليّ، وخالق إلهامك الموصل لك إليّ.
سادسا:الهداية بالرؤيا الصالحة:
هناك أشخاص إذا رأوا رؤيا صالحة واضحة، هذه الرؤيا تحمِلُهم على طاعة الله عز وجل، وهذا شيء مؤيِّد، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول " الرؤيا الصالحة جزءٌ من سِت وأربعين جزءاً من النبوة "، أي أنّ الله عز وجل إذا أراد أن يُعلِمَكَ شيئاً ما بطريق مباشر، بلا اِستنباط ولا تأمّل ولا إدراك، ولا من طريق الأفعال.
أحياناً يُريد الله عز وجل أن يُعلِمَكَ إعلاماً، مباشراً، سريعاً، حازماً، واضحاً، فقد ترى نفسك تسير في طريق الهاوية، كأن الله يُحذِّرَكَ، يعني أحياناً تتساءل عن سؤال كبير، الله عزَّ وجل يُجيبك عن هذا السؤال في الرؤيا.
ما هذا الحب العجيب، ما هذه العناية والمحبة للهداية بكل الوسائل والطرق الربانية ليصل كل إنسان بوسيلة منها إليه؟!
سابعا:الهداية عن طريق الأشخاص:
أحياناً يَهديك عن طريق خلقه، لا عن طريق مُخلوقاته، عن طريق الأشخاص فمثلاً، يجمعك مع شخص يحكي لك موضوعاً، فحينما ألتقي مثلاً بإنسانٍ ويتكلّم هذا الإنسان، أشعر بطريقة أو بأخرى وأتساءل من الذي جمعني بهذا الإنسان؟ هو الله، من الذي ألهمه؟ هو الله، من الذي أنطَقَهُ؟ هو الله، يعني حينما تكون في طريق غير صحيح، ويأتي إنسان يُبيّن لكَ الصواب، فإني اعتقد اعتقاداً صحيحاً أنَّ هذا الإنسان قد ساقَهُ الله إليك لِيُبلِّغَكَ ولِيُعّرِفَكَ، هذا أيضاً هُدى عن طريق الخلق .. بحق من ذاق حب الله له أفاق، وعلم أن مولاه ما أرسل رسله وأنبياءه إلا ليهدونا طريقه، هذه هي الحقيقة أرسل عظما وخلقه ليدلونا على عظم الأرض والسماء.
ويحكي أحد الأشخاص كان في بستان، فرأى قنفذاً يأكل أفعى، أكل قطعة منها ثم تركها وذهب إلى نبات وأكل منه ورقة، ثم عاد، وأكل قطعة ثانية ثم ذهب إلى هذا النبات وأكل ورقة ثانية، فهذا البستاني أمسك النبات وقلعه، وأكل القنفذ قطعة ثالثة ثم ذهب للنبات فلم يجده فمات القنفذ من هداه إلى أن هذا النبات يتناسب مع هذا الطعام؟ الله عزَّ وجل، وكذلك الله هدى النحل فقال:
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)(النحل:68)
ولعله صار واضحاً أنه بتقوى الله تتحقق كل مفاهيم الهداية ومقوماتها للإنسان فيهتدي إلى ربه وليسعد إلى الأبد
والحمد لله رب العالمين.