الله (الجميل)، يتجلى الله به على بعض مخلوقاته، فإذا هو جمال أخّاذ، فالذي ينظر إلى الورود والرياحين والنباتات يأخذه العجب العجاب، إن الله سبحانه وتعالى يتجلى على هذه المخلوقات باسم (الجميل).. هناك عصافير لها ألوان أخاذة، ومهندسو الألوان يقتبسون ألوانهم مِن خَلق الله عز وجل.
أيها الإخوة، (الجميل ) هو الله عز وجل، هو أصل الجمال، فإذا منح الله العبد مسحةً من الجمال تعلق الخلقُ به، فكيف بأصل الجمال؟
لذلك جاء تعريف العبادة: "هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية".
في الدين عنصر جمالي، وفي الدين عنصر معرفي، وفي الدين عنصر سلوكي.. بلا مبالغة؛ لو شققت على قلب المؤمن لرأيت في قلبه من السعادة ما لو وزعت على أهل بلد لكفتهم.
في صحيح مسلم من حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ )).[ مسلم ]
وحينما قال الله عز وجل:﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾. ( سورة القيامة ).
ورد في بعض الكتب أن أهل الجنة ينظرون إلى وجه الله الكريم فيغيبون خمسين ألف عام من نشوة النظرة.
– لماذا يعصي الإنسان ربَّه من أجل الجمال الدنيوي؟
الذي ينبغي أن يكون واضحاً أن هذا الإنسان حينما يجهل حقيقة الواحد الديان، حينما يجهل أسماء الله الحسنى، وصفاته الفضلى، حينما يغويه جمال بعض المخلوقات، ويعصي الله من أجل جمال امرأة، أو جمال قصر، أو جمال مركبة، أو جمال موقع، فيظلم نفسه، ويستحق اللعنة، والبعد عن الله عز وجل.. هؤلاء الذين عصوا ربهم، وخسروا آخرتهم من أجل جمال مخلوق لو عرفوا أن هذا الجمال مسحة من جمال الله عز وجل، ولو أنهم تعرفوا إلى الله لكانوا مع أصل الجمال.
هناك من يتوهم أنّ المؤمن فاتته مباهج الدنيا، أن المؤمن باستقامته حرم نفسه أشياء كثيرة، لكن العكس هو الصحيح، فإن الله يتجلى على قلب المؤمن تجلياً، سمّه إن شئت رحمة، وسمه إن شئت سكينة، هذا التجلي يسعده ولو فقد كل شيء، ويشقى بفقده ولو ملك كل شيء.
أيعقل أن يكون الذي في بطن الحوت نبي كريم، وهو يناجي ربه بقوله:
﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ ( سورة القصص الآية: 176 ).
فيتجلى الله عليه وينقذه، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان في أسعد حالاته وهو في غار ثور، وأن إبراهيم تجلى الله عليه وهو في النار، هذه السعادة التي تلقى في قلب المؤمن يشقى بفقدها الإنسان ولو ملك كل شيء.
الأغنياء الشاردون أشقياء ولو ملكوا الدنيا:
في نفس الإنسان فراغ لا يملؤه المال، ولا يملؤه جمال الأرض، الأقوياء والأغنياء يعيشون حياة ناعمة جداً، بيوتهم قطعة من الجمال، مركباتهم، مائدتهم، مَن حولهم، ومع ذلك هم أشقى الخلق، لأنهم ابتعدوا عن الله عز وجل، وحينما تؤمن أن كل السعادة باتصالك بالله تسعد ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ ( سورة الرعد الآية: 28 ).
حينما تؤمن أن سعادتك المطلقة باتصالك بالله، لأنه جميل، لأن الجمال جزء أساسي في حياة الناس، وأن الشقاء كل الشقاء في البعد عن الله:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾
حينما ترى أناساً مجتمعين في ملهى اسأل نفسك سؤالاً عقائدياً: لماذا؟ ما في هذا المكان؟ فيه امرأة، لعلها ترقص، فيه مغنٍّ، فيه طعام، رأوا سعادتهم في هذا، ولو كشف لهم لو أنهم إذا أقبلوا على الله كانوا في نشوة ما بعدها نشوة، وفي سعادة ما بعدها سعادة، لسفهوا أعمالهم، ولاحتقروا ذواتهم.
حينما يختار الإنسان هدفاً محدوداً، والإنسان في أصل تصميمه لا نهائي، لا يملأ طموحه إلا الله، فإذا اختار هدفاً أرضياً؛ اختار المال، يسعى إليه جاهداً، فإذا حصله، وأحاط به يكتشف حقيقة مُرّة؛ أنه شيء، و ليس كل شيء، فإذا اقترب من مغادرة الدنيا يراه لا شيء.
قد يُقبل الإنسان على المرأة في مقتبل حياته، إن كان شارداً عن الله يظنها كل شيء، في منتصف حياته هي شيء، وليست كل شيء، في وقت مغادرة الدنيا يراها ليست بشيء.
سبحان الله! ما من شيء في الدنيا يمكن أن يمد الإنسان بسعادة متنامية، ولا بسعادة مستمرة، بل بسعادة متناقصة، والدليل: أن الإنسان قد يشتري بيتا يلفت النظر، بعد شهر أصبح كأي بيت عنده، وقد يقتني مركبة من أعلى مستوى، بعد حين تصبح هذه المركبة شيئاً عادياً، كل ما يحيط بالإنسان من مظاهر الجمال المادي بعد حين هذا البريق يضيع، وهذا الاهتمام يضعف، هذه الدهشة تقلّ إلا إذا أردت أن تعرف الله.
أنا أؤكد لكم أن المؤمن في شباب دائم، لسبب بسيط، لأنه اختار هدفاً يفوق كل إمكاناته، لذلك، إن أردت أن تعرف الله فأنت في طريق السعادة، من هنا نؤمن أن المؤمن لا يشيخ أبداً، بل هو شاب دائماً.
كان في الشام رجل من علماء دمشق، بلغ السن السادسة والتسعين، وكان منتصب القامة، حاد البصر، مرهف السمع، أسنانه في فمه كاملة، وكأنه شاب، يُسأل من حين إلى آخر: يا سيدي، ما هذا؟ قال: " يا بني، حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً".
على المسلم أن يتجمَّل ماديًّا:
أيها الإخوة، النقطة الدقيقة: أن الإنسان ما موقفه من هذا الاسم؟ لمَ لا يكون جميلاً في ثيابه؟ في بيته؟ إذا قلت: جميل، فلا أقصد الفخامة، ولا البذخ، ولا الترف ولا الإسراف أبداً.
قد يكون في البيت مسحة جمالية، بيت مريح، المكتب التجاري فيه مسحة جمالية، الدكان فيها مسحة جمالية، الثياب فيها ألوان متناسقة، لماذا ترى الجمال الصارخ في الطرف الآخر، وفي بلاد أخرى؟ وهم بعيدون عن الله بُعد الأرض عن السماء، لماذا هناك الجمال، وعندنا الإهمال؟ هذه مشكلة كبيرة، يجب على المؤمن أن يتجمل.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنَا: (( إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَلِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا فِي النَّاسِ كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ)). [ أخرجه أحمد ]
المؤمن نظيف، وذو أذواق عالية في حياته، والأذواق العالية تجذب الناس إليه، أما إذا أهمل ثيابه، أهمل مركبته، أهمل بيته، أهمل دكانه يفرُّ الناس منه.
أهل الدنيا اكتشفوا هذه الحقيقية، فتأنقوا في حياتهم، وتأنقوا في نظام حياتهم،هذا الجمال في حياتهم يجذب الناس إليهم، تذهب إلى بلاد بعيدة فترى عناية بجمال البلاد منقطعة النظير.
ذات مرة سافرت إلى بلد، سرت مسافة طويلة جداً لم أرَ إلا اللون الأخضر، الطرقات منظمة، محددة، الشاخصات، اللافتات، الحدائق، أنا أقول: الإنسان بحاجة ماسة إلى الجمال، وهذا مودع في أصل فطرة الإنسان، فإذا لبّى هذه الحاجة، وتخلق بكمالات الله سعد في دنياه.
(( إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ )) [ رواه مسلم عن ابن مسعود ]
تغدو حياتنا جميلة، تغدو حياتنا براقة، ما الذي يمنع أن نعتني بمساجدنا؟ بنظافة مساجدنا، بأناقة مساجدنا، ما الذي يمنع أن نعتني ببيوتنا؟
أنا أرى أنك إذا اعتنيت بدنياك عناية تجذب الناس إليك فهذا جزء من الدين، النبي كان كذلك عليه الصلاة والسلام كان نظيفا، كانت ثيابه حسنة، يتعطر دائماً.
الحاجة إلى الجمال مودعة في كل إنسان، فإن لبّاها وفق منهج الله كانت حياته كاملة، وإن أهملها يشقى..أحياناً تتألم ألماً شديداً، تزور قرية مسلمة فترى فيها إهمالا، فيها فوضى، فيها مناظر مخرشة للعين، وأحياناً تزور بلدة أخرى غير مسلمة ترى فيها الأناقة في البيوت، الورود على الشرفات، الطرقات النظيفة، الحدائق الغناء، شيء يلفت النظر، ويؤلم أشد الألم، من قال: إن الجمال وقفٌ على هؤلاء؟ الإسلام جميل، وربنا جميل، ويحب الجمال، لكن سبحان الله ! الإنسان أحياناً يفهم من هذا الموضوع شيئًا آخر ما أراده الله، يفهم أن يتعلق بالمرأة، يقول لك: (( إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ ))، يطلق بصره في الحرام، ويخالف الواحد الديان ويقول: (( إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ ))..ليس هذا هو المعنى.
الجمال له معانٍ لا تنتهي، ولاسيما أن الجمال له معانٍ حسية، وله معان أخلاقية، هناك مواقف أخلاقية، مواقف الوفاء، مواقف الرحمة، مواقف التواضع، مواقف العفو، مواقف الإنصاف، الجمال كلمة واسعة جداً، وعندنا فعل جميل، وعندنا إنسان قوي، ومتواضع، عندنا إنسان غني وسخي، عندنا إنسان متفوق في علمه، ومع ذلك يحبه مَن حوله، فالجمال معناه واسع جداً.. فالكلمة الجميلة أدب، والحركة الجميلة رشاقة، والصوت الجميل نغم، فالجمال واسع جداً يشمل كل حياتنا، وفي جوانب منها كثيرة جداً مباح، بل مطلوب.
(( فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ )) [ الترمذي وأبو داود ]هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
أنا أتمنى أن يكون في حياتنا مسحة من الجمال، لأننا مسلمون، ولا ينبغي أن يوازن بين مسلم بيته مضطرب، فيه مناظر مؤذية، وبين غير مسلم فيه أناقة في بيته، كلما ذكرت الأناقة والجمال لا أقصد المال إطلاقاً، قد تكون أفقر الناس، لكن هناك أذواق، هناك تناسب ألوان، هناك طلاء رخيص، لكن الطلاء يملأ القلب بهجة.
أحيانا يسكن إنسان في بيت من دون طلاء، المناظر مؤذية، منظر الإسمنت مؤذٍ، لو طلاه بطلاء رخيص أبيض، بلون سماوي، أو لون زهري، يشعر براحة، الآن علم الألوان له علاقة بسلوك الإنسان، وهناك مكان ينتحر فيه الغربيون، طلوه باللون الأخضر فخفت نسبة الانتحار.
انظر إلى السماء الزرقاء، والحقول الخضراء، ألوان مريحة جداً، الله جميل، انظر إلى العصافير، والله فيها ألوان تأخذ بالألباب، انظر إلى الفراشات، انظر إلى الحقول، انظر إلى الفواكه، دعك أنها فاكهة تؤكل، لها منظر رائع جداً.
اسم ( الجميل ) تجلى على هذا فكان جميلاً، يجب أن تكون حياتك جميلة، في بيتك، في عملك، في هندامك، في مركبتك، والنظافة أصل في الجمال، وتناسب الألوان أصل في الجمال، ورقة العبارة أصل في الجمال.
كان سيدنا عمر إذا مر على أناس يشعلون النار، يقول: السلام عليكم، يا أهل الضوء، ولم يقل: السلام عليكم يا أصحاب النار في اللغة عبارات جميلة جداً فيها ذكاء، فيها لطف.
جاءت امرأة تشكو زوجها إلى سيدنا عمر، متألمة جداً منه، أهملها إهمالاً كلياً، قالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي صوام قوام، ما انتبه سيدنا عمر، قال لها: " بارك الله لكِ بزوجك، سيدنا علي قال له: لا، إنها تشكو زوجها"، انظر إلى الأدب وهي تشكو زوجها.
( الجميل ) مأخوذ من الجمال، وهو الحُسن في الخَلق وفي الخُلق، ومن الأخلاق الجميلة خلق الصبر، ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾. ( سورة المعارج ).
هناك صبر مع الضيق، مع التوتر، وهناك صفح جميل، أنا سامحتك، إياك أن تقل له (لا تنس أن كل خيرك من خيري).. إذا سامحته انتهى كل شيء، لا تذكره بخطئه.
مثلاً: أيهما أخطر ؛ أن يتآمر إنسان على إنسان فيضعه في السجن، أم يضعه في البئر؟ البئر الموت فيه محقق، إخوة يوسف وضعوه في البئر، والموت محقق، أما امرأة العزيز فوضعته في السجن، ولما التقى يوسف بإخوته ماذا قال؟ قال:
﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾.( سورة يوسف الآية: 100 ).
لم يذكّرهم بجريمتهم، أما الخروج من البئر فنعمة أكبر، مع أن الموت في البئر محقق، وفي السجن غير محقق، فمن كماله ما ذكّرهم بجريمتهم: ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾
الخاتمة:
إخواننا الكرام، إن قرأتم قصص الأنبياء فتخلَّقوا بأخلاقهم، الأنبياء مدارس، كل نبي له مدرسة، وعلى رأسهم سيد الخلق وحبيب الحق.
إذاً: هناك صبر جميل، وصفح جميل، وفعل جميل، وعفو جميل، وعطاء جميل.
أنا أتمنى على الإنسان إذا فعل خيراً أن ينساه، وإذا فُعل معه خير لا ينساه حتى الموت.
أتمنى أن يكون الجمال جزاءً أساسياً في حياتنا، تنظيم البيت يريح، وقالوا: الجمال في البساطة، فقد ترى مركبة أحياناً كلها زينات، وكلها تعليقات، وكلها كلمات، شيء منفر، دعها طبيعية، المركبة أجمل بكثير.
فنحن بحاجة إلى الجمال، لأن حياتنا كلها دم، وكلها قهر، وكلها قتل، وكلها تدمير، وكلها خراب، هذه مشكلة كبيرة، والله أتمنى عليكم ألا تسمحوا لأولادكم بمتابعة الأخبار من شدة ما تترك هذه الأخبار من انعكاسات سيئة في نفوس الصغار.